صور فرح المغاربة برسول الله صلى الله عليه وسلم
نسعى من خلال هذا الحديث المختصر (*) أن نقترب من موضوع يحتاج إلى أعمال علمية كبيرة وموسعة، ويقتضي دراسات تتقاطعها تخصصاتُ التاريخ والفقه والتصوف والأدب والموسيقى والأنتروبولوجيا وغيرها، كما تستعجل قبل هذا وذاك إخراج جم من المخطوطات والوثائق المنسية أو المهملة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا ثم نشرها وإذاعتها بين الناس. يتعلق الأمر بموضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ودوره في التعبير عن فرح المغاربة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
صور فرح المغاربة بالجناب النبوي الشريف
في ضوء هذا الإدراك لدلالة الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم –وهي دلالة سامية تمثل واحدة من دلالات مقام الفرح بالله سبحانه ، سنقارب صورة من صور فرح المغاربة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي صورة ذات أبعاد أدبية وفنية واجتماعية. ويتصل الأمر بمظهر عنايتهم بالمدائح النبوية من حيث هي باب من أبواب الأدب وفن من فنون القول والإنشاد ترسخ في الذاكرة والوجدان المغربيين حتى أضحى عنصرا رئيسا وعلامة لامعة ضمن عناصر وعلامات الهوية الثقافية الإسلامية المغربية، والتي ساهمت عبر التاريخ -وما تزال- في تحقيق التلحيم الروحي للمجتمع المغربي.
فكيف عبر المغاربة عن فرحهم برسولهم عليه السلام من خلال تعاملهم مع المدائح النبوية ؟
المدائح النبوية لدى المغاربة
وهج أفراح وبلاغة إفصاح نعني بداية بالمدائح النبوية ذاك الباب من النظم الذي افتتحه بعض الصحابة وخصوصا الشعراء منهم مثل كعب بن مالك وكعب بن زهير وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، والذين تولوا إبراز قيم الدعوة الإسلامية وعظمة رسالتها ومكارم المبعوث بها والذود عنها ضد أهل الشرك والكفر والضلال. وقد تطور هذا الباب عبر مراحل الدعوة ثم في العهود اللاحقة وتوسعت أغراضه واغتنى ديوانه وازداد شعراؤه إلى أن استوى على ساقه واكتملت ملامحه، وتميزت معالمه واستقرت عناصره ومكوناته خلال القرن السابع الهجري، خصوصا مع إمام المادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر المصري مثوى ومولدا، الصنهاجي أصلا ومحتدا، شرف الدين محمد البوصيري (تـ.631هـ/1233م).
ومع أن متونا مديحية أساسية كانت قد وجدت لها موطئ قدم في المغرب ممثل “بردة” كعب بن زهير المعروفة بـ”الكعبية” والتي مطلعها:
متيم إثرها لم يفد مكبـول | بانت سعاد فقلبي اليوم مقبول |
وكذا لامية عبد الله بن يحيى الشقراطيسي التزري (تـ.466هـ/1073م) المعروفة بالشقراطيسية، ومطلعها:
هدى بأحمد منا أحمد السبل | الحمد لله منا بـاعث الرسل |
شيوع “بردة” الإمام البوصيري و”همزيته” والاهتمام العلمي والأدبي بهما
مع شيوع هذين المتنين المديحيين الأساسين في المغرب، فإن “بردة” الإمام البوصيري و”همزيته” قد حظيتا بأبرز حضور وأشهر تداول وأوسع عناية. وذلك لما امتازتا بهما من مزايا روحية جمالية شعرية ولاتصال سند صاحبهما بالمشرب الشاذلي المتدفقة أصوله وأسراره من جبل العلم بالمغرب، ثم لتزامن دخول القصيدتين للمغرب مع سن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مع العزفيين في سبتة ثم عمر المرتضي الموحدي ليصبح عيدا رسميا للدولة المغربية مع المرينيين كما مر معنا.
ومعه زاد امتداد حضور القصيدتين وشاع إنشادهما وتداولهما لدى الخاص والهام، ليصبحا من لوازم المنشدات الرسمية في الحفلات السلطانية خلال عيد المولد مع المرينيين والسعديين ثم العلويين، ومازال شأنهما، رفيعا وحضورهما لامعا سواء في المجالس السلطانية أو في مختلف الاحتفالات الدينية التي تقيمها الزوايا أو تحيى في البيوتات الخاصة في مختلف المناسبات.
هذا الحضور العام للقصيدتين ضمن ديوان الإنشاد بمناسبة المولد النبوي الشريف وازاه و واكبه اهتمام علمي وأدبي بهما، فقد حظيتا بعدة شروح ووضعت عليهما جملة من التقاييد، بل كانتا تدرسان وتشرحان لعموم الناس في مساجد شتى من المملكة؛ وخصوصا في الأيام الأحد عشر من ربيع الأول من كل سنة، أما الأدباء فقد خمسوهما وشطروهما وسبعوهما وسمطوهما وعارضوهما مما أثمر لنا خزانة ثمرة في المحاورة الأدبية المغربية لقصيدتي البردة والهمزية. بل إن عناية المغاربة بهما اتخذت أبعادا حضارية أرحب، حيث زينت بأبيات منهما كثير من القباب والمحاريب والأبواب والأقواس بالبيوتات والمساجد والزوايا والمزارات، كما ضربت وسكت بأبيات من البردة العملة النقدية المغربية في بعض الفترات، كما هلل بهما المهللون فوق المآذن، وحليتا ببديع الأنغام ورفيع الألحان لتنشدا في جلسات المديح وحِلَق الأذكار بالمساجد والزوايا والبيوتات الخاصة، حتى ظهرت لنا مدارس في إنشادهما اختص بها المغرب وتنافست فيها مدنه وزواياه عناية بهما وترسيخا لمعانيهما النبوية النفيسة في النفوس والأفئدة. فظهرت مثلا مدرسة خاصة في تلاوة البردة بفاس سميت على غرار ما جرى به العمل في الفقه بـ”العمل الفاسي”؛ ويعنون به الطريقة الفاسية في تلاوة البردة وتنغيمها، لتبرز بعد ذلك نماذج تحاكي هذا العمل، منها، تمثيلا، “العمل الوزاني”، و”العمل التطواني”، و”العمل السلوي” و”العمل الرباطي” و”العمل السوسي”..، والأمر نفسه شمل متن الهمزية، فظهرت “الهمزية الريسونية” و”الهمزية الحراقية”… وغيرهما، وتشير هذه الاصطلاحات الفنية إلى الأسلوب الترنيمي الخاص بهذه الزوايا في تلاوة وإنشاد متن الهمزية.
هكذا نلاحظ أن المغاربة وتعلقا منهم بالجناب النبوي الشريف، اعتنوا بهذين المتنين باعتبارهما سيرة نبوية منظومة، وهذه العناية هي فقط النموذج الأبرز لاحتفائهما بالمدائح النبوية. النموذج الشعري الثاني الذي نستحضره في هذا السياق بعد قصيدتي البردة والهمزية البوصيريتين، هو متن شعري مديحي غاية في التميز ويعرف بـ”الوتريات البغدادية”.
وهي قصائد من بحر الطويل أنشأها أبو عبد الله محمد بن أبي بكر رشيد الوتري البغدادي (تـ.663هـ/1264م)؛ وهو فقيه شافعي يذكر أن أصله من كتامة بالمغرب. يبلغ عدد هذه القصائد تسعة وعشرون قصيدة نظمها على حروف المعجم، كما جعلها وترية بحيث تضم كل قصيدة واحدا وعشرين بيتا، التزم فيها بافتتاح الأبيات بحرف مطابق للروي، مثال ذلك مطلع القصيدة الأولى وهي على حرف الألف:
على من له أعلى العلا متبـوأ | أصلي صلاة تملأ الأرض والسما |
وهذا مطلع القصيدة الأخيرة على حرف الياء:
وقام بساق العرش يستمع الوحيا | يسود الورى من كلم الله في السما |
وعلى غرار عناية أهل المغرب المتميزة بالبردة والهمزية، محضوا هذه الوتريات عناية مثيلة تضارعها في النوع وتقل عنها في الدرجة، حيث عارضوا هذه الوتريات وخمسوها وشرحوها ولحنوها واعتنوا بإنشادها خصوصا في المدرستين الإنشاديتين الريسونية والدلائية الحراقية الرباطية.
وتحضر هذه القصائد بشكل ألمع وأبرز في الاحتفال بالمولد النبوي إذ يزاوج إنشادها بإنشاد البردة والهمزية البوصيريتين، مع توريق كتاب “الشفا” للقاضي عياض، وذلك ابتهاجة بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وإلى جانب عناية المغاربة بهذه المتون لفرحها بالرسول صلى الله عليه وسلم وتعبيرها عن حبه والتعلق بجنابه مع استحضار شمائله ومعجزاته ومكارمه ومحطات سيرته والتشويق إلى زيارته ثم الاستشفاع به، وذلك في حلة شعرية حازت من البها ما يأسر النفوس ويتلف النهى، وزادها بهاء جمالية الترانيم وعذوبة الأصوات وإهاب مجالس الإنشاد وروحانيتها؛
إلى جانب هذه المتون ظهرت هناك نصوص نثرية تروم ذات المنحى مثل “الموالد النثرية” ومتون خاصة بالصلوات النبوية مثل كتاب “دلائل الخيرات” لسيدي محمد بن سليمان الجزولي أو “ذخيرة المحتاج” لسيدي محمد بن المعطى الشرقي، ونصوص شعرية مفردة سواء أكانت من الفصيح الموزون أم الموشح أم الزجل أم الملحون، وسواء بالعربية أو الأمازيغية أو الحسانية.
ولم يكتف المغاربة بالنظم والقرض بل اعتنوا بكل النصوص مشرقية كانت أو مغربية توافرت فيها شروط التعبير، وكذا استثاره الفرح بالرسول صلى الله عليه وسلم، مما أغنى ذخيرة أهل المغرب في ديوان المديح النبوي الشريف متونا وألحانا وألوانا؛ وهي جميعها تتغيى زرع محبة المصطفى في الأفئدة والقلوب وترسيخ مكانة الرسول كقدوة وأسوة باعتباره “الإنسان الكامل” والنموذج الأمثل “للرحمة الإلهية”؛ لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وبهذا الاعتبار ساهمت المدائح النبوية في التعبير عن فرح المغاربة بنبيهم، فرحا دائما أبديا، إذ هو عنوان محبتهم له ولآل بيته، والمحبة مفتاح الاقتداء الفَرِح بالمحبوب، والتمسك الصادق بسيرته وسنته وشريعته. لذا علينا إحياء هذه المعاني لإنصاف أجدادنا، والاعتراف بما قاموا به في سبيل صياغة وصيانة الهوية الإسلامية للشخصية المغربية، والعناية بما توسلوا به في ذلك من وسائط ثقافية وجمالية واجتماعية غاية في النبل والأصالة ساهمت في تلحيم المجتمع وتمتين وحدته المذهبية و حماية أمنه الروحي، وأسهمت بقوة في تشكيل الوجدان الجمعي المغربي، وبناء وصون وحدة الأمة.
إبراز عالمية الرحمة المحمدية، وتعريف العالمين بمكارم وكمالات النبي صلى الله عليه وسلم وكونية القيم التي جاء بها
ثم إن إحياء تلك المعاني يقتضيه اليومَ، وأكثر من أي وقت مضى، واجب المحبة النبوية؛ وذلك من أجل إبراز عالمية الرحمة المحمدية، وتعريف العالمين بمكارم وكمالات النبي صلى الله عليه وسلم وكونية القيم التي جاء بها هديُه مما يجهله أو يتجاهله “المستهزؤون”، فضلا عما تقتضيه تلك المحبة و تستلزمه أيضا من ترشيد في سلوك مُدعيها حتى يتوافق مع سلوك المحبوب وهديه، وتصح بذلك دعوى المحبة فتترك أحسن الأثر وأبلغه في من لا يقرؤون تعاليم نبي الإسلام إلا في ممارسات وأخلاق أتباعه. تلك بعض الإضاءات التي من شأنها أن تحفزنا على مزيد فرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، متخذين من سيرة وهدي ومنهاج المفروح به نبراسا يبدد قلقنا، ويؤنس وحشتنا، ويضيء عتماتنا، وينير سبلنا، ويجدد ثقتنا بأنفسنا للسير على هدى في زمان تحاصر المسلمين فيه أسئلةٌ محيرة، ويكاد يُطوقهمُ الضلال من كل صوب.
(*) الدكتور محمد التهامي الحراق