الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الأفراح المحمودة
نسعى من خلال هذا الحديث المختصر (*) أن نقترب من موضوع يحتاج إلى أعمال علمية كبيرة وموسعة، ويقتضي دراسات تتقاطعها تخصصاتُ التاريخ والفقه والتصوف والأدب والموسيقى والأنتروبولوجيا وغيرها، كما تستعجل قبل هذا وذاك إخراج جم من المخطوطات والوثائق المنسية أو المهملة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا ثم نشرها وإذاعتها بين الناس. يتعلق الأمر بموضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ودوره في التعبير عن فرح المغاربة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
1. تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب
2. الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم: تأصيل وبيان
بالانطلاق من “حديقة الفرقان” ومخزن الأسرار، كتابِ الله عز وجل، بحثا عما يضيء لنا أوجه ومناحي فرح المؤمن، يمكن إجمال ذلك –دون وقوف على تفاصيل ذات نفاسة لا تنكر- في وجهين بارزين:
- أ. فرح مذموم منهى عنه؛
- ب. فرح محمود مرغب فيه
الفرح المذموم المنهي عنه
أ- فمن الفرح المذموم المنهي عنه والمتعددة صوره في الذكر الحكيم الفرح بالمعاصي، ذاك ما تصرح وتلمح إله دملة من الآيات منها قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) التوبة، الآية 81؛ وقال أيضا: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون)غافر، الآية 75.
ومن صوره كذلك، ما يدل على الاغترار، يقول سبحانه: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) الشورى، الآية 48؛ ويقول أيضا: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني، إنه لفرح فخور)هود، الآية 09، وقوله أيضا: (كل حزب لما لديهم فرحون) المومنون، الآية 54/ الروم، الآية 31.
ومنه أيضا الفرح بما يشغل عن الله، نستفيد ذلك من قوله سبحانه: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) القصص، الآية 76، وقوله أيضا: (فرحوا بما عندهم من العلم) غافر، الآية 83، وقوله كذلك: (فرحوا بالحياة الدنيا)الرعد، الآية 26، وقوله أيضا: (ولا تفرحوا بما آتاكم) الحديد، الآية 23، وقال: (إنه كان في أهله مسرورا) الانشقاق: الآية 13.
بل إن من أصناف هذا الفرح المذموم صورا ظاهرها محمود، كالفرح بنعمة الطاعة والانشغال بها عن المنعم. قال ابن عطاء الله في حكمه: “لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وافرح بها لأنها برزت من الله إليك..”. (قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فيفرحوا هو خير مما يجمعون) يونس، الآية 57.
وهذا الملحظ في غاية النفاسة لأن الفرح بالمعصية وبالشواغل الظاهرة أمر جلي وباد، فيما حظ النفس في الفرح بالطاعة والوقوف عندها دون شكر المنعم والمتفضل بها، أمر خفي منه يتسرب العُجب والكبر المذمومان في صورة الفرح المحمود. وهو أمر يصعب علاجه، لقول صاحب “الحكم”: “حظ النفس في المعصية ظاهر جلي، وحظها في الطاعات باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه”. الصورة الرابعة من نماذج الفرح المذموم ذاك “الفرح بمساءة المسلمين والاغتمام بسرورهم”، قال تعالى: (إن تمسسك حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يفرحوا بها) آل عمران، الآية 12.
هذه بعض صور الفرح التي نهى عنها الشرع وحذر منها؛ لأنها صور لفرح النفس بنزواتها وبالأعمال التي زين لها الشيطان اقترافها.
لكن ثمة صورا أخرى لفرح مطلوب ومرغوب، نقف ها هنا عند بعضها.
الفرح المحمود المرغب فيه
ب- من الصور الشتى للفرح المحمود المُرغَّب فيه الفرح بما أنزل الله تعالى، لقوله سبحانه: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) التوبة، الآية 124، وقوله أيضا: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) الرعد، الآية 36. ومنها الفرح بنصر الله، قال سبحانه: (…ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله) الروم، ص. 4-5.
إلا أن الصورة الأجلى والأشمل في هذا الفرح والمُرغَّبِ فيها بصريح البيان، فهي الفرح بفضل الله ورحمته لقوله سبحانه: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) يونس، الآية 57. وهو من “أفضل رتب الفرح” كما يذهب إلى ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام. وعند هذا الوجه من الفرح المحمود سننزل ضيوفا متأملين.
فقد جاء في “الدر المنثور” للإمام السيوطي وفي غيره منقولا عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قوله: “فضل الله العلم ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم ” . بل إن بعض العارفين يذهب إلى أنه عليه السلام الرحمةُ عينها، إذ لما كان سائر الرسل قد بُعثوا رحمة إلى أقوامهم؛ وكان صلى الله عليه وسلم قد فاقهم خَلقا وخُلقا وعلما وكرما؛ حتى استمدوا من روحانيته غرفا من البحر أو رشفا من الديم، كان عليه السلام هو “عينَ الرحمة” لقوله سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء، الآية 107 .
من هنا وجب علينا الفرح والابتهاج والحبور بهذه الرحمة التي أهداها لنا ومَنَّ بها علينا الحق سبحانه. فقد قال أبو العباس المرسي في لطيفة نفيسة: «الأنبياء إلى أممهم عطية، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية؛ لأن العطية للمحتاجين والهدية للمحبوبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة». ومن ثم فإن من أسطع الدلالات الساطعة للآية الكريمة الترغيبُ في الفرح بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، من حيث كون الفرح شكرا للرحمن الرحيم على هذه الرحمة المهداة، وامتنانا وشكرا له سبحانه على هذه النعمة المسداة، فضلا عن كونه مجلى من مجالي محبة المصطفى بما هي فرض على الأعيان وشرط في الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، بل حتى يكون المحبوب الأكرم عليه الصلاة والسلام أحب للمؤمن من نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر لما أخبره: «أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن لأنت أحب إلى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر».
الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَ الأفراح المحمودة
فالفرح، إذن، بالرسول الأكرم بما هو شكر لله على نعمة البعثة المحمدية وبما هو تعبير عن محبة الجناب النبوي، هو من أرقى رتب الفرح المرغَّبِ فيه، لأنه يفضي إلى مختلف صور الفرح المحمود المشار إليه آنفا، فالفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن وجوبا فرحا بالآيات المنزلة عليه، وفرحا بما من الله عليه وعلى رسالته وعلى المؤمنين من تأييد ونصر؛ ثم إن الفرح به صلى الله عليه وسلم يصرف وجوبا عن كل صور الفرح المذموم، لأنه يصرف عن المعاصي بله الفرح بها، ويصرف عن كل ما يشغل عن الله بله الفرح بهذه الشواغل، ويجعل من شروط صدق هذا الفرح، الاقتداء والائتساء بالمفروح به الذي علم أهل الإيمان أن يحب المؤمن لأخيه ما يحبه لنفسه، فكيف أن يفرح بمساءته ويغتم بسروره.
هكذا يصبح الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَ الأفراح المحمودة، فهو يستجلب فرح المصطفى لقوله عليه السلام للشيخ أبي موسى الزرهوني لما رآه في المنام- و رؤيته في المنام حق بصحيح وصريح الحديث الشريف- وذكر له ما ينكره البعض من أمر الاحتفال بمولده؛ قال له تلك الكلمة النبوية الذهبية التي سرت في أوصال العاشقين وتخللت دماءهم الممزوجة بالحب المحمدي:”من فرح بنا فرحنا به”. والفرح يشرف بشرف المفروح به كما قال العز بن عبد السلام رحمه الله، وأي فرح أشرف من الفرح بسيد الخلق، لذا كان هذا الفرح قربة من القربات يثاب عليها المؤمن المحب أجزل الثواب ويرفع بفضلها إلى أعلى الدرجات؛ وكيف لا وقد خُفف العذاب عن كافر بسبب فرحه بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالموحد المحب. فقد روي عن أبي لهب أن العباس بن عبد المطلب رآه في المنام بعد مماته فسأله عن حاله، فقال له: “لم ألق خيرا بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة[الأسلمية جاريته]، وإنه ليخفف عني في كل ليلة اثنين” ، ذلك أنها بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هذا حال الكافر الذي لا تنفعه طاعة أو خير مع كفره حيث يخفف عنه إكراما له لفرحه بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بال المسلم المؤمن الموحد المحب لجناب خير خلق الله.
وإلى هذا المعنى اللطيف والنفيس أشار الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي في هذه الأبيات البديعة لما قال:
يثبت يداه في الجحيم مخلَّدا | إذا كان هذا كـافرا جاء ذمُّـه | |
يُخفَّف عنه للسرور بأحمَـدا | أتى أنه في يوم الاثنين دائمـا | |
بأحمد مسرورا وبات مُوَحِّدا | فما الظن بالعبد الذي كان عمره |
هذا المعنى ذاته في تمجيد عيد المولد وتعظيم شأنه وشأوه تشير إليه وتزكيه حكاية دالة جرت بين العالم والصوفي الكبير ابن عباد الرندي والعارف الصالح سيدي أحمد بن عاشر دفين سلا؛ «فقد ذكر ابن عباد رحمه الله ونفع به أنه خرج في يوم ميلاده عليه السلام إلى خارج البلاد، فوجد الولي الصالح الحاج ابن عاشر رحمه الله مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكل الطعام، قال فاعتذرت بأني صائم فنظر إلي الشيخ نظرة منكرة، وقال لي: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد».
هكذا إذن تتجلى المنزلة الرفيعة التي يتبوأها الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم لدلالته على الشكر وعلى المحبة وعلى الاقتداء؛ دلالة يقترن فيها التعلق بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والإقبال على سيرته والتمسك بشريعته، ببهجة التعلق والإقبال والتمسك، وفي ذلك دليل على صدق الإيمان لاقتران الاتباع بالمحبة. إذ الاتباع من لوازم المحبة، وليس كل اتباع عنوانا عليها. ذاك معنى دقيق انحجب عن بصيرة بعض من قرأ ولم يفقه أحد أسرار قوله تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)آل عمران: 31.
(*) د. محمد التهامي الحراق