بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة ليوم 21 جمادى الآخرة 1447هـ الموافق لـ 12 ديسمبر 2025م
((الحرص التام على احترام اختيارات الأمة والقوانين المنظمة للحياة))
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، يسر سبل الهدى لعباده، وجعل الشريعة منوطة بتحقيق مصالحهم في الدين والدنيا والآخرة، نحمده تعالى ونشكره ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى صحابته المجتهدين في التبليغ عنه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ أيها المؤمنون والمؤمنات، ففي إطار تسديد التبليغ وبيان حقيقة الدين والتدين الصحيح، سبق الحديث عن الدين وأنه يهم الفرد بقدر ما يهم الجماعة وأن هذين الهمين لا ينفصلان، كما سبق الحديث عن وجوب التزام الجماعة واتباع إمامها، وحب الوطن والبرهنة عليه بخدمته ورعاية مصالحه العليا، وعن حقها في اتباع ثوابتها، والسير في ركاب ولي أمرها، جمعا للكلمة وتوحيدا للصف ونبذا للشذوذ، نظرا لما لهذا السلوك من فوائد ومنافع على الأمة.
واليوم يأتي الحديث عن أمر جامع من أمور الجماعة، وهو؛ وجوب احترام القوانين المنظمة للحياة، واحترام اختيارات الأمة في شأنها العام، كما يجب احترام ثوابتها السالفة الذكر؛ إذ الكل يصب في المصلحة العامة للجماعة بكل مكوناتها.
عباد الله؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم
«المسلمون عند شروطهم»[1].
ومعنى الحديث؛ هو وجوب وفاء المسلمين بما تعاقدوا عليه من الشروط فيما بينهم، وهذا الحديث من الأسس التي تنبني عليها العقود، كما بنيت على “وثيقة المدينة” التي بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الحقوق المتبادلة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد والدولة.
ومن أهم هذه العقود ما يسمى اليوم بــ “العقد الاجتماعي” الذي يربط الدولة بالمجتمع، وعليه تتفرع سائر الحقوق والواجبات المصاغة في القوانين المنظمة للحياة.
وهذه القوانين هي عبارة عن أحكام فقهية مأخوذة من أصول متعددة من أصول الفقه، صيغت في قوالب قانونية من أجل حماية الكليات الخمس للشريعة الإسلامية، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
فكل نص قانوني يحفظ أمرا جزئيا من أمور هذه الضروريات الخمس، من قريب أو من بعيد، من جانب الوجود أو من جانب العدم، جزئيا كان أو كليا، فهو من صميم الشريعة، لأنه في مضمونه ومقصده مؤسس على نصوص القرآن والسنة النبوية وفهوم العلماء المجتهدين، ولا ضير أن يصاغ في مواد وفصول، كما صيغ من قبل في منظومات الفقه والقضاء وما جرى مجراهما.
فالعبرة بالمضمون لا بالصيغ، وبما يحقق من المصالح ويدرأ من المفاسد، وليس بمصدره أو منشئه، وقد استأنس الرسول صلى الله عليه وسلم بتدابير من تجارب الفرس والروم في تدبير الشأن العام للأمة، وكذلك فعل أبو بكر وعمر ومن جاء بعدهم رضي الله عنهم، فاقتبسوا من قوانين الدول المجاورة لهم ونُظُمِها، بل وأفكارها وفلسفاتها ما يوافق الشريعة ولا يناقضها.
والدارس للسياسة الشرعية عبر تاريخ الأمة يجد مدى استفادة المسلمين من نُظُمِ الآخرين وتجاربهم المختلفة.
ومن ثَمَّ كان لزاما احترام هذه القوانين التي تصدر عن الدولة اليوم بقصد تنظيم شؤون الحياة باعتبارها من المصالح المعتبرة شرعا المنصوص عليها، أو المرسلة التي اقتضتها الشريعة في حفظ الضروريات الخمس، وفي مقدمتها حفظ الأمن ودفع الفتنة وتسهيل حياة الناس وتيسير قضاء حوائجهم، ورفع الحرج والعنت عنهم بما تقتضيه المقاصد الحاجية، وتحسين معاشهم ومعادهم باتخاذ مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ديدنا لهم، في القول الحسن، والعمل الصالح، والمعاملة الطيبة التي تثمر الحياة الطيبة للناس، كما وعدنا بذلك الحق سبحانه في قوله، وهو أصدق القائلين:
﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪يٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗ وَلَنَجْزِيَنَّهُمُۥٓ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ﴾[2].
نفعني الله وإياكم بقرآنه المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على نبي الهدى، وينبوع الرحمة والحكمة، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله؛ إن احترام القوانين المنظمة للحياة على اختلاف أنواعها ومجالاتها من صميم الشريعة، فيجب احترام العقد الاجتماعي الأول المتمثل في وثيقة الدستور تدينا، ثم ما تفرع عنه في كل شأن من الشؤون، في أمور الناس الخاصة والعامة.
والحرص على التزامها من باب ما خص الله تعالى به هذه الأمة من خصيصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يجب التوافق عليه، وحمل الكافة على تطبيقه وتنزيله، لتحقيق المصالح ودرء المفاسد قدر المستطاع. وقد تيسرت لهذا التحقيق اليوم وسائل لم تتوفر لمن عاشوا قبلنا.
ولنضرب لذلك مثالا؛ لنعلم ونتأكد ما مدى وجوب تطبيق تلك القوانين واحترامها، فالقوانين المنظمة للسير في بلادنا، كما في سائر البلدان، وضعت لحماية أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم. فاحترام علامات التشوير تطبيق للشريعة وإعطاء الطريق حقها.
والذي يعنينا في هذا الصدد كف الأذى، ولا يوجد أذى أعظم من إزهاق الأرواح وما يترتب عنه من مفاسد نفسية وأسرية واجتماعية واقتصادية كبرى، من إضاعة المال وتَرَمُّل الأزواج وتيتيم الأولاد، بسبب تهور متهور ولا مبالاته، وربما يظن أن القانون ليس كالشرع في وجوب التطبيق والاحترام. فيعتبر المخالفات في قانون السير أمرا عاديا فيتساهل فيها، ويعتدي على حقوق الآخرين، وهو مع ذلك يصلي ويصوم، ويظن أن ذلك لا يؤثر على تدينه. وهذا فهم خاطئ يجب تصحيحه؛ لما له من أضرار وعواقب وخيمة.
فلو احترمنا قوانين السير لسلمت كثير من الأنفس التي تزهق سنويا، وحفظت كثير من الأموال التي تُهدر، ولجنَّبنا الأسر كثيرا من الأحزان، ولوفرنا على أنفسنا كلفا نفسية ومادية واجتماعية كثيرة يمكن تلافيها.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على احترام القوانين المنظمة لحياتكم؛ فهي سياج أمنكم وضمان سلامتكم ومظهر رقي مجتمعكم.
هذا؛ وصلوا وسلموا على سيدنا محمد، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصحابة الكرام، المهاجرين منهم والأنصار والتابعين لهم بإحسان.
وانصر اللهم من وليته أمر عبادك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمدا السادس نصرا تعز به الدين، وترفع به شأن المسلمين، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بصنوه السعيد مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
وتغمد اللهم بواسع رحمتك الملكين الجليلين، مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، وأكرم مثواهما، في مقعد صدق عندك.
اللهم ارحمنا وارفعنا واجمع شملنا على الحق، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
[1] – صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة 3/92 وسنن أبي داود، باب ما جاء في الصلح 5/446.
[2] – النحل 97.






